اكتشاف الطريق الأجمل في قاع العالم(٣): باتاغونيا والجزاء الموفور !
جدول المحتويات
تنتهي الحدود الدنيا لباتاغونيا (Patagonia) بأرخبيل أرض النار ، وكأن من أطلق تسمية هذا الموضع السفلي منها ؛ أراد الاكتفاء -برمزية ما- على كون مقاماتها الأخرى في الأعلى المتجاوزة لأيّة حدود أو أسماء ؛ تهبط ربوات الجنة ..
فبتغونية منطقة طبيعية شاسعة ؛ تعملقت آمادها على الفائض من جسد الأرض ؛ كأبدان مستوطنيها الآوائل الذين نبتوا فيها ، إذ كانوا يتمايزون عن غيرهم بأقدامهم الكبيرة وقاماتهم المرتفعة ، كما تروي المرويات والأساطير البائدة عنهم ؛ لذلك سُموا بمقاييس بساطير الغزاة البيض عند اجتياح ممالكهم بـ"الباتاغون" ..
وبتغونية -منذ الأزل وتعاقب القرون- ظلّت قادرةً وفيّة على أن تمنح قاطنيها والسائرين عليها ؛ شعورا صادقا وأصيلا في معنى طهارة الأرض وبكارتها ؛ كما وُجِدت حين نشأتها .. عند بدء التكوين الأول ، ولحظة الفتق الإلهي المبين بين أكابر مخلوقاته .. وهذا ما يُفسر -ربما- قرارها بالانزواء عند حافة هذا العالم ، وبين بحار المحيطين الهادرين على تخومها ، لتصون برائتها الأولى من ابتذال الناس وفسادهم بنفسها ما استطاعت !! ؛ بالرغم من افتضاح سرها وشيوعه بينهم بمرور السنين ..
وبتغونية أرضٌ زيّنها ربنا الجميل الخلاّق بالكثير من آياته ؛ فعلى صعيدها سيتبدّى لك كل شيء فرّقه الله في ملكوته ثم جمعها فيه ؛ ويكأنها المثال الجامع لتلك السنن الكونية الجارية على جميع مخلوقاته ، التي استخلصها النورسي -رحمه الله- بعبارته الموجزة الكثيفة "من الواحد إلى الكثير ومن الكثير إلى الواحد" ..
فالتضاريس الباتاغونية مشحونة بالتنوع بمشاهدها الطبيعية الملحمية ، ومطارح الجمال النقية والخشنة ؛ فمن سهوب مراعيها الممتدة بالأعشاب إلى قمم جبالها الملتحفة بالثلوج ، ومن حيوية بحيراتها الفيروزية الملونة بالخضاب إلى وقار أنهارها الجليدية المهيبة بالشيب ، ومن مروجها المزهرة النابضة بأنفاس الحياة إلى براكينها النشطة المشتعلة بغصص الموت ، ومن غاباتها الكثّة المطيرة إلى وديانها الجرداء القاحلة ...
لذا كان من الصعب جدا على من حُبّب إليهم النظر في ملكوت الجلال ؛ أن يقاوموا فوات كل ذلك عليهم ، أو أن يتجاوزوا -ببساطة- فكرة التلذذ بالهناء الباتاغوني باعتذاريات القيود ومشاق السفر ، أو أن يزهدوا برفقة "كاريتيرا أوسترال" .. الطريق الذي يمكّنهم بأيسر وسيلة معقولة لاكتشاف مسرّات باتاغونيا في شطرها التشيلي الخلاب ..
فالصحبة مع هذا الطريق هو غاية ما تبحث عنه وترجوه من الانغماس في الطبيعة والامتلاء بها .. كما هي تطلعاتك الدفينة يا صديقي ؛) ، فالعطاء لن يتباطئ نواله عليك أبدا فيه ، وما بعض سلبيات الطريق غير المرغوبة إلا مقدمات لنعم مخبوءة تتوزّع في جنباته ؛ فجزاؤه ليس ثوابا منتظرا يأتيك بعد حين ؛ وإنما جمالا مُعجّلا موفورا ..
سان كارلوس دي باريلوتشي (الأرجنتين) - محطة الحافلات - الساعة السادسة والنصف صباحا
هذه الليلة .. لم تصل أضلاعي بعد لحد كفايتها من الإغفاء فضلا عن النوم العميق !! ، مع ذلك عليها الآن أن تستفيق وتستجمع كل قوة كامنة فيها لتوصلني إلى محطة الحافلات بالمدينة ، فرحلتي المجدولة في تمام الساعة السادسة والنصف ؛ إلى محطتي التالية من مغامرتي الباتاغونية ، توشك على المغادرة في هذا الزمن المبكر للغاية بالتوقيت المحلي ..
فالزمن الآن يقارب وقت السَّحَر في باريلوتشي ، ويخيّل إليّ أنّ الشمس هنا قد تطبّعت هي الأخرى بطباع أهل هذه المدينة وسجيتهم ؛ فهي تجنح كثيرا إلى التأني في شؤونها ، والتروي الطويل في جريانها ؛ قبل أن تطلع تماما على الأفق وتستقر عليه بشعاعها عند حدود التاسعة تقريبا ..
لكن .. من يُصدّق أنني حزينٌ هذه اللحظة على وداع باريلوتشي ؟! ، وقد تناهى صوتي بدويّ لعناته الانقليزية الشائنة إلى سقف مطارها الخشبي ، واخترق على الأغلب بعض جدرانه الاسمنتية ! ، حدث ذلك قبل أربعة أيام رغما عنّي ، وبعد ساعتين فقط من هبوطي بالطائرة على مدرج المطار ، وفي أول أنفاس لي مع هواء الأرجنتين ..
يا إلهي .. ما كان أسرع أن استحالت ضلوعي المنشرحة بقدومها من العاصمة التشيلية "سانتياغو" ؛ إلى اصطكاك دراماتيكي عنيف ، وانقباض مباغت في قفصها الصدري المسكين !! ؛ حيث لم تعد قادرة على احتمال هذا الكم من الحنق المتراكم ، ومسلسل وطأة هذا الحظ العاثر ؛ الذي يلازمها باستمرار ويترصّد لها مع هؤلاء الأرجنتينيين تحديدا ..
أوووه يبدو أن القصة ستطول 😅 ، والمقام على هامش هذه التدوينة الجانبية ليس مناسبا في سرد مجريات ما حدث بالتفصيل !! ؛ سامحني أعدك بأنني سأعود في تدوينة مستقلة للتتمة .. لكن حتى لا يتبدّد مغزى ما أريد قوله هنا ، والحديث -بالتأكيد- عن الجميلة باريلوتشي :) ..
أنّ هذه المدينة السياحية التي تصدّر الشوكلا والمغامرة على مرتاديها ، وتتمدد على ضفاف بحيرة "ناهويل هوابي" الفاتنة ، وتعرف لدى سكانها المحليين بمسمى أكثر اشتمالا وتحديدا لهويتها الطبيعية ؛ فيطلقون عليها "منطقة البحيرات الأرجنتينية" ؛ إنما تمثل بوابة علوية لبداية اكتشاف باتاغونيا في شطرها الآخر في جمهورية الأرجنتين ؛ صاحبة النصيب الأكبر من هذا الإقليم في حدودها السياسية ..
فإقليم باتاغونيا لا تستحوذ عليه دولة تشيلي بمفردها !! ؛ ولو كان الأمر بيدها لما قصّرت :) ؛ أعتدّ بذلك الزعم من مروري السريع وقراءاتي البسيطة في تاريخ التشيليين بهذا الصدد ؛ فهم شرهون جدا في ابتلاع الأراضي وتملكّها ؛ سواءً بالمطالبة الطوعية بها كما في القارة القطبية الجنوبية ( التي لا أدري بماذا سيستفيدون منها بالضبط !! ) ؛ أو حتى انتزاعها بالقوة القهرية كما في حرب المحيط الهادئ من جيرانهم الشماليين ؛ أحفاد الإنديز ..
أخيرا .. وقبل أن أشغل مقعدي في الحافلة المتوجهة الآن إلى الحدود التشيلية ، ومن ثم إلى وجهتي التي تمثّل بالتوازي البدايات الباتاقونية هناك ، وهي أيضا مستهل محطات الطريق رقم (٧) المنشود ؛ عليّ أن أخبرك بأمر يخص باريلوتشي ؛ يعنيني كثيرا ..
وهو أنني سوف أبقى مدينا لهذه الجميلة ، وأحفظ لها الود أنها ما بين أربعة أيام من إقامتي القصيرة فيها ، أرتني كيف تبدو ملامحها في كل فصول العام ؛ فقد جئتها في اليوم الأول وهي ترزح تحت أقسى معدلات ثلوجها الموسمية ؛ ربما أرادت من ذلك أن تطبّع علاقة هذا الوافد الصحراوي الجديد مع هذا الجديد عليه ، وتدربه جيدا على التعاطي مع مدلهماته قبيل البدء بمغامرته المرتقبة ؛ وقد فعلت :) .. وفي يوم وداعها الأخير وعلى مائدة بحيرتها البديعة ؛ أولمت لي بشمس ربيعية ؛ تسطع عليّ بضوئها دون سواي ؛ وبدون مزاحمة أية غيوم شتائية شاتية !! ..
إلى مدينة بويرتو مونت التشيلية ، وأول محطات الطريق رقم (٧) ..
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.