تخطى الى المحتوى

اكتشاف الطريق الأجمل في قاع العالم(٢): لماذا يبدو كالخروف الأسود ؟

AbdulElah
اكتشاف الطريق الأجمل في قاع العالم(٢): لماذا يبدو كالخروف الأسود ؟

جدول المحتويات

ما دام أنّ وقع الشتاء وأنفاسه قد خيّمت على أعتاب حكايتي مع هذا الطريق ؛ فمن طبيعة الحال أن يتبلّور الصقيع من معاينتي التعريفية به أيضا :)

ففي ظني أنّ "كاريتيرا أوسترال" يكاد يتفرّد بسمات قلّما تلتقي في طريق سياحي يشبهه في هذا العالم ..

فهو من جهة اعتباره من هذا النوع طويل جدا من حيث المسافة ؛ وفوق ذلك تظهر المسافة المقطوعة فيه ليست نفسها فيما سواه !! ..

فمجموع كيلومتراته المقدرة رسميا بـ (١٢٤٧ كم) ستجدها فور الخلاص من مراغمته ، والوصول لمرفئ نهايته ؛ أنّ كل ما تود فعله حيال تلك الأرقام تطييبا لخاطرك ؛ غرز علامة الأس التربيعي فوق قوسيهما من باب الانتقام :)

وإياك -يا صديقي- أن يتربّع بك الظن فتستقبل هذه الإشارة في خانة مبالغاتي الانطباعية فيه ، أو المتولّدة عن تجربتي الشتائية عليه ؛ فقد استهنت من قبل لما تصفحت مجموعة من مراجعات المدونين والسائحين حول هذه الفكرة بادئ الأمر ؛ فظننت أن باعثهم فيها ربما يكون متوهما لعدم الاعتياد ، أو متورّما لتعظيم أُبّهة المنجز بإتمام الطريق ؛ حتى شهدت الحقيقة جاثمةً بعنف في تخشّب ظهري :)

حيث كان معظمهم يذهبون لصحة هذه التقييمات على مشقة بُعده ، وتعدد الأنشطة ومناطق النزهة الوفيرة من حوله ، والتي من مأمنها يُستنفد تباعا ما تملكه من مخزوني الطاقة والزمن عند تعاقب محطاته ..

لذا من النادر ألا تبتعد فحوى مشوراتهم لمن أراد تمام الرحلة على هذا الطريق ، وسلامتها ، والتمتع بها على النحو الأمثل ؛ عن لزوم إدخار القدر الجيد من الاستعداد المعقول والأيام الكافية لمطارحته ، ولو كان ذلك بين أحضان الربيع والأوقات المعتدلة في العام ! ..

كما أن من سمات هذا الطريق أنه يمر بعدد من القنوات والمضائق البحرية في دربه ؛ فلا مناص من متابعة الطريق إلا بالإبحار فيها واستخدام سفن الشحن للتنقل بين موانئها المفتوحة على الضفتين .. مع ضرورة الحجز المسبق لبعضها، والتأهب الزمني لموافاتها في مواعيدها التشغيلية المعلنة ؛ فمواصلة القيادة بسيارتك على الطريق رقم (٧) وسعيك الحثيث فيه ؛ لا تعني بالضرورة حتمية وصولك للمكان الذي تريد في الوقت الذي تشاء !! ؛ عدا عن كون عقارب الساعة بين منعطفاته الكثيرة ، وجسوره الضيقة ، وطوارئ مسلكه اليتيم في الاتجاهين ؛ لن تتسيّد بوتيرة حركتها الدقيقة هناك في الغالب !! ..

وبشأن السمة الأهم ؛ والتي تنطوي -على الأرجح- عليها حس المغامرة والتشويق في هذا الطريق .. فكونه ترابي وغير معبّد في معظم أجزائه ؛ كأنه بتلك الهيئة آية حية على ما تبقّى من طرق الغابرين ، وشاهدا لآثار رواحلهم العتيقة عليه ..

فالمطالعة في تاريخ نشأة هذا الطريق الجنوبي في البلاد التشيلية ، والأطوار المختلفة التي مرّ بها ، والدواعي الحيوية التي أفضت لوجوده ، والجنرال العسكري الذي أمر ببنائه ، وآلاف المجندين الذين سيقوا لإقامته ، والوعود الانتخابية التي اُستثمرت طويلا من أجله ؛ كل تلك التفاصيل وسواها ستسهم -دون شك- في إدراكك للكثير عن أسرار بُنيته ووظيفته ..

أما جغرافيّة هذا الطريق ؛ فمن تضاريسها الخلابة تروى كل الحكايات عنه ، وما يبلغك عن جمال الوجود المستفيض في كل ركنٍ فيه ، وما يتكشّف لك عن نصيب التشيليين وحظهم من نعيم باتاغونيا وطبيعتها الآسرة في الإقليم ..

فلعقود طويلة من الزمن ؛ وقبل الشروع بتشييد "كاريتيرا أوسترال" آواخر السبعينات الميلادية ؛ لم يكن من سبيل للوصول برا إلى أجزاءٍ كبيرة من المناطق الجنوبية في تشيلي ؛ إلا عبر القوارب والطائرات ، أو من خلال استخدام الأراضي الأرجنتينية كجسر عبور للتحول منها إلى تلك المناطق .. لذلك بقيت كل المجتمعات المتفرقة فيها منفصلةً لحد كبير عن رقعة البلاد ، علاوة على معاناتها الشديدة من انقطاع الإمدادات ، وصعوبة التنقل والحركة ؛ بحلول مواسم الشتاء والنوبات الجوية القاسية ..

ومع نشوب تشيلي في النزاعات الحدودية المتتالية مع جارتها الشرقية المهووسة بكرة القدم ؛ تفاقمت حدتها في صراع بيغل الذي أوشك النزاع بينهما بشأنه لمواجهة كروية مفتوحة (عفوا عسكرية!! 😅) ؛ على إثرها تعقّدت الصعوبات وازدادت تبعاتها على التشيليين المتناثرين في تلك المناطق ؛ مما دفع الحكومة العسكرية المسيطرة على الحكم آنذاك ؛ للتحرك سريعا بإنشاء هذا الطريق الحاسم استراتيجيا ؛ من أجل تعزيز الوجود القومي في هذه المناطق المعزولة ، وضمان اتصالها البري مع بقية البلاد ..

ولأختصر لك مغزى هذا السرد الممل ؛ بالمعنى الذي استوعبته في عشرة أيام من صحبتي القصيرة معه ، واستنتجته ضمن فرضياتي الخاصة جدا ؛ فلو أنّ مكتبا هندسيا مدنيا قد صمّم هذا الطريق ، وخرجت مجسماته الإنشائية من بين أروقته الزجاجية البراقة ؛ لوجدته مختلفا عما هو عليه الآن !.. ولرأيته -مثلا- يتوخى المسار الأبسط في التضاريس ، ويراعي توافر الأكتاف العريضة للطريق ، وستراه يعج بالأنفاق .. الأنفاق التي لا أثر لوجودها البتّة في نسخته العسكرية !! .. فكما تشير المصادر؛ فإن سلاح الهندسة في الجيش التشيلي هو من تولّى أمر هذا الطريق برمّته ؛ لهذا خرج الإصدار العسكري منه في منتهى ما يستقصي عنه عشاق الطبيعة والمغامرة ، ويروق بسحنته البريئة غير المتكلفة لهم حد الثمالة ؛ فقليلة هي الطرقات من أنداده التي تُبقيك على اتصال وثيق وبإحساس لا يُصدق مع تجليات الوجود دونك ؛ حتى أنني من فرط هذا التماس الذي استشعرته بالمرور على منعرجاته ؛ أتحمّل قسمتي من ثلوج الجبال وحجارتها المتساقطة ؛ ولا أُبالي :) ..

وبخصوص السمة التالية عن "كاريتيرا أوسترال" ؛ فعندما قرأت عنها لأول مرة أثناء البحث ؛ مباشرةً بثّت في نفسي خوالج الرغبة والرهبة منه في آن ؛ فعلى الرغم من نطاقه الشاسع على الأراضي التي يتجاوزها مساره ؛ فهو لا يخدم إلا ما يقرب من مئة ألف شخص فقط ؛ يتناثرون كلهم في كامل أطرافه ونواحيه ، نصفهم من مدينة واحدة تُدعى كويهايكي (Coyhaique) هي الشقيقة الكبرى لهم ؛ لذا كنت أُدرك وأنا بين آرائكي في مسكني المنيف بالقلعة ؛ أنني مقبلٌ على مغامرة سأسير فيها بسيارتي التي لا أدري عن أيٍ من تفاصيلها بعد! ؛ في فجاج يخلو البشر منها لحدٍ بعيد ؛ وهذا ما وجدته متحققا بالفعل ؛ عندما كنت أقطع مئات الكيلومترات دون الشعور بهمس أحد من الإنس والجن ؛ إلا بضعة أفراد من عمال صيانة الطريق بمركباتهم "البيك اب" وآلياتهم الضخمة ؛ إذ كانوا يُمثّلون بمجرد رؤيتهم حولي ؛ مصدر سعادة وفرح عميقين لي .. لا لكونهم بشرا من طين ؛ فهذا أمر مفروغ منه !! ؛ فالناس مخلوقات عاطفية تألف وتؤلف ؛ ولكن لأن ذلك يعني أن أطنانا من الثلج قد أُزيحت من بطن الطريق أمامي ؛ وهذا ما كان يفجّر الدوبامين زيادة في خلاياي للمضي قدما فيه :) ..

من هنا برزت سمة أخرى مع هذا الطريق ؛ كادت ستؤول إلى معضلة كؤود لولا نجدة الصديق "قوقل ترانسليت" ؛ في حال توفرت -بالطبع- تغطية جيدة للإتصال بالإنترنت ؛ فالغوص في هذه البلدات المتطرفة عن المدن الحضرية اللاتينية بالذات ؛ يقتضي أنه لا يُجدي مع أولئك السكان القاطنين فيها ؛ الإنجليزية البسيطة للتفاهم معي من جهتهم ؛ أو افتقار الأسبانية الأساسية للتفاعل معهم من جهتي :) ؛ وعلى كل حال فلقد جرت فصول الحكاية على خير ؛ والفضل لله من قبل ومن بعد ؛ فبرامج الترجمة الفورية -كما أشرت- قد سدّت هذه الورطة في القرى الظاهرة عليه هناك ؛ على نحوٍ عزز من آدميتي :) ؛ أما في المسافات الفاصلة بينها ؛ والتي تنعدم شبكة الاتصال كليا فيها ؛ فلم أحتج في تلك المواضع البينية مزيد تواصل مع أحد ؛ إلا مرات قلائل كانت للاستعلام على بعض الأمور الدخيلة عن منهج الطريق الذي درسته ؛ استعنت للبحث عن إجابتها بلغة الإشارة التي كانت فعالة وتفي بالغرض ! ..

عند هذا المنحنى ؛ أجدني غير قادر على التنبؤ بحقيقة موقفك المبدئي تجاه هذا الطريق ؛ والذي من المؤكد أن تظهر بوادره خلال تلك الأسطر من التعريف الموجز به !! .. لكن لا بأس لو لم يزل الجليد بينكما سيد الموقف ويقاوم الكسر ؛ فالصقيع بدوره يميل للظهور في الصباحات الباكرة على كل الأشياء ؛ حتى مقدمات الحكايات منها .. لهذا فمهما بدا "كاريتيرا أوسترال" كالخروف الأسود في القطيع ؛ تتراءى غرابته من بعيد عن سائر أقرانه ، وربما أظهرت بعض سماته في الظاهر شيئا من القسوة والاختلاف ؛ إلا أن كنه أمره وما يخفيه يستحق يا عزيزي .. يستحق فعلا رحلة إنعام النظر إليه .. ألم تعلم أنّ الجنة حفت بالمكاره !! ..

0:00
/1:05

مع بدايات الطريق رقم (٧) ستكون مضطرا للانتقال في أكثر من عبّارة شحن للعبور من ضفة إلى أخرى

0:00
/0:22

أصدقائي الرائعين من عمال صيانة الطريق .. كم أحبهم 💕

0:00
/0:26

ليس ثمة شيء يخطف القلب من إبحار على نهر عريض مجهول محاط بضفاف جبلية باتجاه البحر الطلسم .. بابلو نيرودا (شاعر تشيلي)